الحمد لله، وبعد:
فإنه ليس بغريب على كل عربي أن يشتغل بحفظ نسبه وتعليمه لمن بعده؛ فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وكيف يعرف المرء غيره إن لم يعرف نفسه أصلا؟! وجاء في الحديث الشريف: "اعرفوا أنسابكم" حديث حسن أخرجه البيهقي، وفي حديث آخر: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر" حديث حسن أخرجه أحمد، بل رأى ابن حزم -رحمه الله- أن تعلم النسب ضروري لمعرفة آل النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنصار ليحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقرر ابن عبد ربِّه سبب اهتمام العرب بأنسابهم لكونه سبب التعارف، وسلم التواصل، وتعاطف الأرحام، وزاد بعض أهل البادية لِمَا كان في أيام الغزو والهجاء من الحمية لأبناء الدم ومؤازرتهم بما لا يكون إلا بحفظ الأنساب.
ويكتسب علم الأنساب أهميته لدى الفرد بوصفه سنة كونية وغريزة إنسانية تدفعه إلى معرفة أصوله وجذوره؛ ولهذا وجد عند بعض الأسر الصينية والبريطانية والهندية وغيرها، وقرر علماء الاجتماع أنه كلما زاد تحضر المجتمعات وازدهرت العلوم فإن الاهتمام بعلم الأنساب يزداد.
إن من يطلع على تاريخ العرب قبل الإسلام يدرك مدى اهتمامهم بحفظ أنسابهم وتوريثها وتعليمها، وأنهم تميزوا بذلك عن غيرهم من الأمم الأخرى، ولذلك كان العرب ولا زالوا ينتسبون للقبائل أو أحد أبنائها ككثير من الأسر العربية المعاصرة، بخلاف العجم أو من جهل نسبه من العرب ممن تعذر حفظ آبائه لأي سبب كان؛ فانتسب إلى بلد أو حرفة أو نحو ذلك.
وقد وقفت الشريعة من علم النسب موقفا إيجابيا فاكتسب هذا العلم فضلا وشرفا تمثل بعناية رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإجابته في كثير مسائله وحث صحابته على تعلمه وتميز بعضهم فيه ولا سيما الخلفاء الراشدين، وشهادته لأبي بكر -رضي الله عنه- بالتمكن من هذا العلم كما في الحديث: "أبو بكر أعلم قريش بأنسابها" وما روي عن أبي بكر أنه كان يسأل الصبيان عن أنسابهم فيخبره كل واحد بمبلغ معرفته، ونصوص العلماء في جلالة علم النسب أكثر من أن تحصر، وعدّ الحافظ السمعاني -رحمه الله- أنه من أعظم النعم التي أكرم الله بها عباده لأن تشعب الأنساب على افتراق القبائل أحد الأسباب الممهدة لحصول الائتلاف؛ بل هو من أسباب الحمية والنصرة عند العرب كما قال قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام- حين كفروا به: (ولولا رهطك لرجمناك) فأبقوا عليه ولم يؤذوه بسبب نسبه الذي سينصره من يلتقي معه فيه؛ حتى قال الحافظ ابن عبدالبر -رحمه الله-: "ولعمري ما أنصف القائل إن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر".
لكن الشريعة في الوقت نفسه نهت عن سوء استخدام الأنساب بالاستعلاء على الآخرين والطعن فيهم، وكان علم النسب في البداية واحداً من فروع علم التاريخ ثم ما لبث أن صار علماً مستقلاً له أصوله ورجاله، وانبرى للاشتغال به كثير من علماء الأمة إلى يومنا هذا، بل وهو موجود حتى في الحيوانات ولا سيما الشريفة منها كالخيل مثلا؛ فأنسابها وأعراقها ودماؤها محفوظة بتفاصيل دقيقة يعرفها ذوو الشأن، وحفظ لنا التراث عدد من التصانيف الخاصة في أنسابها من علماء الأمة.
وأكدت الشريعة كذلك في عدد من الآيات والأحاديث على أن معيار الأفضلية والكرامة عند الله هو التقوى كما قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وكانت العرب لا تتكئ على شرف أنسابها عن لزوم الأعمال الفاضلة والأخلاق الكاملة حتى قبل الإسلام كما قال الشاعر الجاهلي عامر بن الطفيل الكلابي العامري:
وإِنّي وَإِن كُنتُ اِبنَ سَيِّدِ عامِرٍ *** وَفارِسَها المشْهُورَ في كُلِّ مَوكِبِ
فَما سَوَّدَتني عامِرٌ عَن قَرابَةٍ *** أَبى اللَهُ أَن أَسمو بِأُمٍّ وَلا أَبِ
وَلَكِنَّني أَحمي حِماها وَأَتَّقي *** أَذاها وَأَرمي مَن رَماها بِمَنكِبِ
ومع ذلك فالذي يجمع بين شرف النسب وشرف الفعل، ويحمله شرف النسب على المكارم والأمجاد الدينية والدنيوية فلا ريب أنه أكرم وأعلى كما جاء في الحديث: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" حديث صحيح أخرجه أحمد.
وقد قصدنا في هذا الموقع التعريف بالأسرة وأعلامها وفروعها، ولتكون عونا لأبناء الأسرة على التواصل وصلة الرحم، والتخلق بأخلاق أجدادهم الطيبة وسيرة آل البيت العطرة في البلاد والعباد.